2010/08/15

سبعة أيام (ملونة) /2/




-         التاريخ / يوم السبت : 5/12/2004 م
الوقت : الثانية والربع فجراً.
المكان : سيارة "أحمد" وهي تقطع شوارع المدينة بسرعة كبيرة.
-         الحدث : { أرجوك يا "أحمد" أسرع ... } ردد الأخير وهو يختلس النظر في المرآة لابنة أخته المسجاة على فخذي والدتها ويفرك عينيه طارداً – بظنه – النعاس عنهما : { طيب ؛ طيب ... سنصل بإذن الله فلم يتبق إلا مسافة يسيرة ؛ "مريم" حبيبتي اذكري ربك والهجي بالدعاء والاستغفار } وكأنما بمقولته تلك أفاقها من غيبوبة فتحول صراخها لتضرع خاشع وسط دموع ساخنة ؛ وما فتئ لسانها يكرر : { لطفك يا رب ؛ يا ارحم الراحمين ؛ أتوسل إليك وأنا اعلم بأنك أرحم بها مني ؛ يا رب رحمتك وحنانك ؛ يا رب عفوك وعافيتك ... } مضت دقائق أربع بدت طويلة جدا ؛ وثقيلة بل مميتة ؛ حتى هتف "أحمد" وهو يدلف لبوابة الطوارئ في مستشفي شهير : { ها قد وصلنا } ولم يكد يوقف السيارة حتى قفز منها صارخاً وهو يزدرد لعابه محاولاً السيطرة على انفعاله : { حالة طارئة ؛ بسرعة يا إخوة أرجوكم ؛ بسرعة رحم الله والديكم } ولم تنتبه "مريم" إلا والمسعفين يفتحون الباب برفقة شقيقها وأحدهم يتناول منها ابنتها وهو يقول بصوت ِمن تعودَ تهدئة المنفعل ِ: { اطمئني يا أختي ؛ ستكون ابنتك بخير بإذن الله } وخلال نصف دقيقة كانت الصغيرة قد تمددت على السرير الأبيض في غرفة الإنعاش الجانبية وقد ألتف حول سريرها طبيبان وثلاث ممرضات ؛ كانت الغرفة أشبه بالخلية ؛ وأحد الطبيبين يوجه أوامره لممرضتين بأن تراقب إحداهن النبض وتتأكد من الضغط وتعد الأخرى العدة لإجراء إنعاش طبي ؛ في حين كان الطبيب الثاني يحادث الممرضة الثالثة ويأمرها بإحضار سجل "آلاء" الطبي ومعرفة تفاصيل ومرات تعرضها للتشنج ومتى كانت آخر نوبة ؛ وخلف الباب وقفت "مريم" وأنفاسها المتلاحقة ودموعها الصامتة تعبر عن شيء يسير من اضطرابها ؛ أما "أحمد" فقد جعل َينفخ في يديه وكأنما برودة الطقس وصلت إليه داخل المستشفى ! كان لكل منهما طريقته الخاصة في التعبير عن توتره وربما خوفه وذعره ؛ لكن الغريب أنهما اتفقا في النظر – كل برهة – ناحية ساعة جدارية ؛ حتى ليظن الرائي أنهما على موعد مسبق ينتظران حلول وقته ! ؛ مضت عشر دقائق كاملة ؛ قبل أن يخرج أحد الطبيبين وهو يقول من خلف الكمامة الطبية وقد شرع في نزع قفاز يده اليمين : { الحمد لله ... لقد عاد نبض القلب للانتظام ؛ وما أخر عملية الإنعاش هو طول فترة التشنج والتأخر في الحضور؛ وهذا ما استغربه منك يا أخت "مريم" ! } فانفجرت "مريم" بالبكاء ؛ وغطت وجهها بيديها كما تفعل في كل مرة تبكي فيها ؛ ولكن الدموع هذه المرة اختلفت ؛ فقد كانت دموع فرح وسعادة بنجاة أبنتها ؛ وما لبثت أن قالت من بين دموعها : { سامحني يا دكتور ؛ لقد انشغلت المربية بترتيب ملابس "آلاء" وحتى لا تزعجها فقد فعلت ذلك في غرفة الغسيل ؛ وحينما انتهت كان قد مضى ساعتين منذ تركت "آلاء" نائمة و ... } فقاطعها الطبيب بصوت يبعث الاطمئنان على المستمع : { لا عليك يا أختي ؛ إنما أردت تنبيهك على نقطتين ؛ الأولى : الحرص على عدم ترك الصغيرة لوحدها قبل أن تستغرق في النوم ؛ فملفها يقول بأن جميع حالات تشنجها كانت بعد نوبة بكاء طويل ؛ والأخرى : ... لا أعلم كيف أقولها ؛ لكن أذكر أنني قرأت عن جهاز يساعد من في مثل حالة ابنتك في التعبير عن مشاعره ؛ وطلب المساعدة وغير ذلك } وقبل أن تعلق "مريم" تحدث شقيقها متسائلا : { وكيف يعمل هذا الجهاز ؟ وهل هو متوفر هنا ؟ } أجاب الطبيب : { الجهاز عبارة عن مجموعة أزار كبيرة تعبر عن حاجة معينة ؛ كالأكل والشرب ؛ واللعب والنوم ؛ والملل والألم ؛ ولكل زر إضاءة مختلفة وصوت مميز ؛ كما أن الجهاز مرتبط بجرس استدعاء يثبت في غرفة المسئول عن الطفل , وأصعب ما فيه تعويد الطفل عليه ؛ أما عن توفره فعلمي أنه ... } وسكت الطبيب – غضباً – لما لاحظه من انصراف الشقيقين عنه ونظرهما للداخل حيث ترقد ابنتهما ؛ ولم يقطع نظرهما سوى خروج الطاقم الطبي ما عدا ممرضة اتخذت كرسياً ملاصقاً للسرير ؛ وانتبه الاثنين على صوت الطبيب الآخر وهو يقول : { مبروك يا أستاذ ؛ وستبقى الصغيرة تحت الملاحظة مدة 24 ساعة ... فقط لنطمئن على انتهاء الأزمة ؛ ويمكنكم زيارتها غداً } ... { "مريم ؛ مريم" ما بك ؟ } واستفاقت الأخيرة على صوت "أحمد" وقد دخل لغرفة "آلاء" – حاملاً بعض الأكياس - دون أن تنتبه شقيقته لحضوره ؛ ولها كل العذر إذ رحلت بعيداً في عالم التذكر لأحد أصعب المواقف التي مرت بها ؛ فلما رأته قطبت بين حاجبيها وسألته : { منذ متى وأنت هنا ؟ } ؛ فأجاب وابتسامته تكسو وجهه الطفولي : { منذ ساعتين خخخخ ... ما لك تحدقين النظر في جهاز "آلاء" يا له من جهاز أصيل ؛ أظنه أكمل الثلاث سنوات منذ أهداه " صالح " لابنتنا الحلوة ! } لحظتها تحول غضبها اللحظي لحنق واضح وهي تسأله وقد ضغطت على الحروف : { "صالح" من ؟ صديقك المكنى بأبي "خالد" ؟ } أشاح "أحمد" بوجهه وقد أدرك أن لسانه جنا عليه ! ؛ فلما كررت "مريم" السؤال لم يدر ما يقول – وكثيراً ما يقع في نفس المأزق معها – وأخذ يقول بصوت متلعثم :

-         { الحقيقة ... الحقيقة ... }.
-         { الحقيقة أنك كذبت علي }.
-         { لا ؛ لا ؛ صدقيني ؛ أقسم لك أنني لم أفعل ؛ لقد أخبرتك وقتها أن صاحبي رجل الأعمال المستورد الشهير من جمهورية الصين قد تكفل بإحضار الجهاز ؛ ربما ما أخفيته عنك أنه ساهم من خلال بعض معارفه المتخصصين في تصنيعه بمواصفات خاصة ومميزة كما ترين ... }.
-         { لا ؛ لقد كذبت علي ولم تخبرني أن "صالح" هو من فعل ! }.
-         { اقسم لك ؛ لقد أخذ مني أبا "خالدٍ" أغلظ الأيمان بأن لا أخبرك ؛ يقول : حتى لا تظن أم "آلاء" أنني فعلت ذلك لأجل خطبتي لها ؛ وأقسم لك بأنه رفض أخذ أي مقابل ؛ حتى أنه أحرجني لما سألني : "أحمد" أتبخل علي بالأجر ؟ }.
-         { آها ؛ لا تريده أن يحرجك ! أما أختك فالأمر جداً طبيعي ! }.
-         { تعلمين أنني لا أرضى ما يسيئك ؛ وهو يعلم بأنك تجهلي من أهداها }.
-         { لكنني لست أجهله }.
-         { بلى أنت كذلك حتى قبيل ثلاث دقائق ؛ فهوني الأمر ... آه لقد تذكرت ؛ وقتها لم يكن صالح قد خطبك بعد ؛ لانشغاله بزوجته " أم خالد " رحمها الله التي كانت – وقتذاك - في مرضها الأخير –
-         فأنزلت "مريم" رأسها وتمتمت بصوت خفيض : { رحمها الله }.
-         ولم يفت "أحمد" أن يستغل الموقف حين قال : { على سيرة "صالح" سمعت بأنه قد خطب قريبة له ترملت عن زوجها }
-         صمت طويل ... يعقبه : { سمعت أو أخبرك ؟ }
-         { لا ؛ لا ؛ سمعت ولست بمتأكد } ... وكم جاهد "أحمد" ليخفي ابتسامة الرضا.

-         التاريخ / يوم الاثنين : 5/6/2010 م
الوقت : الخامسة وخمس وأربعون دقيقة عصراً.
المكان : فيلا " أحمد " العتيقة.
الحدث : دلفت "مريم" إلى صالة الفيلا وهي تدفع عربة ابنتها ومن خلفهما تسير المربية ؛ كانت ... تبدو فرحة ؛ فلأول مرة سيتسنى لأبنتها أن تقابل أطفالاً سوى ولدي شقيقها "رند" و "يزن" ؛ لكنها في نفس الوقت كانت قلقة ؛ فأكثر ما تخشاه ردة فعل حبيبتها من رؤية الغرباء وهم يلعبون من حولها بضوضائهم وصخبهم وحركتهم الدائبة ؛ لكن ؛ التجربة فعلاً تستحق ؛ و"أحمد" لم يدع لها أساساً فرصة لتعتذر ؛ حين أخبرها بأنه ينوي عمل حفلة بمناسبة نجاح ولديه وانتهاء عام دراسي طويل , وأنه سيدعو أصدقاء ولديه الذين لن يتجاوز عددهم أربعة ؛ وقد أكد لها أن حضور "آلاء" شرط ٌ أساسيٌ لإقامة الحفلة كما أنه جهز كل ما من شأنه إدخال البهجة على قلب الصغيرة ؛ فلم تملك حينها إلا أن توافق. ولم تكد تضع عباءتها حتى أقبل الصغيرين متأنقين كعادتهما وفي يد كل منهما لعبة وباقة ورد ملونة ولاحظت أن "يزن" ابن الخمسة أعوام قد رمى الباقة – لفرط حماسه – وهو يعدو باتجاهها على أريكة مجاورة وكأنه نسي لمن يقدمها فضحكت وهي تنحن لتستقبله بين ذراعيها وأخذت تمطر وجنتيه بقبلاتها الحانية ؛ ولم تنتبه لـ "رند" والتي وقفت بكل أدب وهدوء تنتظر دورها في السلام ! ولعل الصغيرة قد ملـّت فسمعتها وهي تقول بصوتها المميز : { عمتي : تفضلي هديتي لـ "آلاء" بمناسبة نجاحها } ! فأنزلت الصغير وقبلت شقيقته وهي تبتسم متعجبة فولدي أخيها قد ورثا الطيبة من أبويهما بصورة ملاحظة ؛ ولم تدرك إلا وشقيقها يهتف بصوتٍ مرحبٍ وهو ينزل من أعلى السلم : { أهلاً وسهلاً ومرحباً ؛ أشرقت الأنوار بحضور الملكة وولية عهدها } وبعد أن صافحها وقبـّل صغيرتها أشار بيده لغرفتها فاندهشت ! إذ أنها لم تدخلها منذ سنوات ؛ لكن دهشتها تبددت أو لعلها زادت حين فتح – هو - الباب فرأت الغرفة كما تركتها ! بنفس السرير الأبيض ونفس الأريكة الزرقاء بل وحتى " دبدوبي " دميتها الحبيبة كانت متوسدة على مخدتها الزرقاء الجميلة ؛ ما تغير في الغرفة وجود جهاز تلفاز ضخم يبث على شاشته أفلام كارتون ؛ وأنه قد تم تعليق زينة في أعلى السقف ؛ وفي زاويتين متقابلتين تدلت بالونات كثيرة ملونة ؛ وانتبهت لصوت جهاز تسجيل (عتيق) تنبعث منه أهازيج فرح وأناشيد بهجة ؛ أحست بشعورٍ عجيبٍ اقرب وصف له أنه شعور أنس لأجل أبنتها ؛ وامتنان لشقيقها الذي لم ينسَ شيئاً فهمت أن تشكره إلا أن وصول "هناء" أفسد عليها مخططها ؛ وبعد أن تبادلت الصديقتان السلام والسؤال عن الأحوال سمعتا "أحمد" يقول : { لندع الصغار برفقة "أم علي" ولنذهب ثلاثتنا لغرفة الضيافة ؛ فقد أوشك صاحبي أن يصل } !
-         { ومن صاحبك ؟ } "مريم" تسأل ...
-         { آ ؛ آ ؛ إنه والد بعض الأطفال - أعني أصدقاء "رند ويزن" - ؛ وقد دعوته لعلمي أنك وصاحبتك – وأشار لزوجته – ستتفرغان بعد نصف ساعة من الآن للحديث عن زواج فلانة وولادة فلانة و مرض ... وسمعوا جرس الباب يقرع فلم يكذب "أحمد" خبراً واستأذن منهما وتوجه نحو الباب بخطوات أقرب للعدو ؛ وسمعتاه وقد اتخذتا موضعهما في غرفة الضيافة يقول لزائريه : { مرحباً ؛ حياكم الله ؛ كم أنا مسرور تلبيتكم دعوتي ! }. وبخطوات كثيرة أغلبها لأقدام صغيرة ساد الموقف ؛ حتى فتح "أحمد" باب الغرفة عليهما فرأين رأسه يطل منه وهو يقول : { "هناء" لقد وصل الضيوف ؛ والأطفال أدخلتهم لغرفة "مريم" فهلمي إليَّ بالشاي والقهوة ؛ ولا تنسي أن ضيفنا لا يحبذ القرنفل في قهوته } ؛ عندها وقفت "هناء" وتمتمت بجمل تحمل في مضمونها معان الاستئذان ولم تنتظرها "مريم" لأن الفضول ومن قبله الخوف أرغماها على اللحاق بها والتوجه ناحية غرفتها الحبيبة لترى الضيوف الصغار (الغرباء) وردة فعل "آلاء" تجاههم ؛ وبالقرب من الغرفة سمعت ضوضاء عجيبة ؛ ضحكات من هنا وهناك وعبارات غير مفهومة فشعرت بوجلٍ تلاشى عند ولوجها غرفتها ؛ إذ رأت الجميع يتقافزون حول "آلاء" وقد جلست بالقرب منها "أمينة" – مربيتها – ويتقاذفون البالونات من فوق رأس أبنتها وهذه الأخيرة تبدو الفرحة في عينيها واضحة وهي تحرك يديها - وإن كان ذلك بثقلٍ غير مركز – محاولة ضرب البالون وهو في طريقه للطرف المقابل ؛ كان الضيوف أربعة ولدين وابنتين ؛ لكن الجميع لما انتبه لوقوفها على باب الغرفة توقف عن حركته ! حتى "آلاء" فعلت ! فاستحيت "مريم" وشعرت بأن حضورها أفسد على الصغار حفلتهم ؛ وبسرعة عجيبة ابتسمت – كما تفعل أغلب وقتها – وقالت : { مرحباً بأولادي الصغار – لم تدر ِهي نفسها لم سمتهم بذلك لكنها واصلت – هل لي و"آلاء" أن نتعرف عليكم ؟ } فأجابها أكبرهم وقد اصطف ثلاثة منهم للسلام عليها : { نعم ماما ؛ أنا "خالد" – وهنا زوت " مريم بين حاجبيها – ؛ وهذه أختي "دانة" ؛ وذلكم "وليد" ؛ والصغيرة - وأشار بيده لطفلة اتخذت من حضن "أمينة" مجلساً لها – "ديم" } ... لم تتفوه "مريم" سوى بكلمات ترحيبية دارجة وأرادت التقهقر للخارج ؛ إلا أن فضولها دفعها للسؤال : { والدكم هو الأستاذ "صالح" ؟ } ضحكت "دانة" وهي تجيب بكل براءة : { ماما ؛ بابا "صالح" يعمل مدير في شركة كبيرة وليس بأستاذ } ابتسمت "مريم" وقالت : { ولم تسميني بماما ؟ } ففاجأها جواب صدر من "خالد" – هذه المرة - والذي قال : { بابا دائماً يحدثنا عنك يقول : أمكم "مريم" تحبكم وستأتي لزيارتكم قريباً } فغلبتها الدهشة ولم تنطق وبدا لها أن فعل "صالح" غير مهذب ؛ وما زالت صامتة محدقة في ابنتها وهي تحاول السيطرة على حركة رأسها ولعلها – تلكم المسكينة - تحاول الانغماس في اللهو برفقة ولدي خالها ولتشارك الأطفال الأربعة (الغرباء) ضحكهم المتواصل ؛ وخطرت لها فكرة - كسبيل للهروب من صمتها – أن تذهب لمساعدة "هناء" وذلك ما فعلته ؛ وفي المطبخ نست الموقف وانهمكت في فن الأنثى الفطري حتى سيطرت عليها فكرة أن تريَ "هناء" أنها تفوقها في الطبخ ! والأولى بين دقيقة وأخرى تقول لها : { أم "آلاء" كل شيء معد ؛ وأنت هذا اليوم ضيفتنا فارتاحي يا حبيبتي } ولم تفتأ تجيبها : { حبيبتي ؛ أنا ما دمت برفقتك فمرتاحة – وربما أرادت هذه المرة أن توقف هذا الطلب المتكرر فعقبت - ثم أن المنزل – حسب علمي – يخلو من الإناث سوانا ؛ ما لم تكوني تريديني أن ألعب مع الأطفال ! }.
-         { لا ؛ لم أقصد يا حبيبتي و لكن ... }.
-         { "هناء" ؛ هل ضيف "أحمد" هو "صالح" إياه والأطفال الأربعة أطفاله ؟ }.
-         { لا ؛ لا ؛ لست متأكدة ! - صمت طويل يعقبه - أتعلمين لقد أوصى أخوك على الحلويات والمقبلات التي تحبها ابنتك ! }.
-         { نعم ؛ نعم ؛ في كل مرة يفعل ! }.
-         صمت طويل ؛ يخترمه صوت آذان المغرب ؛ وبعده { "مريم" هل نصلي ثم نعود لإكمال تجهيز العشاء ؟ }. وبدون أي كلام زائد مضتا للتجهز للصلاة ؛ وبعد فراغهما منها طلبت "مريم" أن تطمئن – للمرة الرابعة – على أبنتها فذهبتا سوية لغرفة الأولى وهما تحملان أطباقاً ثلاثة من الكعك وإبريقين من العصير؛ ولما دخلتاها لاحظتا أن الجميع متحلق حول جهاز التلفاز وقد كان صوته مرتفعاً ؛ لكن العجيب أن "آلاء" كانت هادئة جداً ولعلها أصبحت تنتهج سلوك من حولها ! ولما فرغتا من توزيع الكعك والعصير قام "خالد" وكأنه تذكر شيئاً وفتح حقيبة بنية – كبيرة نوعاً ما – وأخرج منها أربعة علب كل منها بحجم ولون مختلف ووزعها على أشقائه فبادر الأربعة بترتيب واضح لتقديمها لـ "آلاء" فتناولتها "أمينة" منهم وهي تدعو لهم ؛ عندها نغزت "هناء" "مريم" وكأنها تستحثها لشكرهم ؛ إلا أن الأخيرة فهمت أنها تدعوها لفتح العلب ! وهو ما فعلته ! فابتدأت أولاً بهدية "ديم" وكانت خاتماً أبيضاً جميلاً ؛ تلتها هدية "دانة" وهي عقد وقرطين أبيضين ؛ ثم هدية "وليد" وكانت عطراً ذا رائحة زكية ؛ وآخرهن هدية "خالد" وقد كانت العلبة الأكبر حجماً ؛ فإذ بها تحوي جهاز عرض أنيق متنقل وهو ما يسمى بالـ (DVD) ؛ وفلما فتحت شاشته وجدت ورقة زرقاء فاندهشت وهمت بأن تعيدها لـ "خالد" لكن وجودها في هدية الأكبر سناً وفي مكان مشاهد دفعها لتغير نيتها ؛ ففتحتها وقرأت :

بسم الله الرحمن الرحيم

أم "آلاء" السلام عليكم ورحمة وبركاته ؛ تحية طيبة وبعد ...

أعلم بعظم مفاجأتك بهذه الورقة ؛ ولكنني لم أجد حيلة سواها – وهنا رفعت "مريم" رأسها لتنظر لـ "هناء" وربما كانت الأخيرة شريكاً في الموضوع ؛ إذ لم تجدها ! فواصلت القراءة - ... فكوني كريمة – كما اسمع عنك – وامنحيني فقط ثلاثة دقائق ؛ هي عمر قراءتك لهذه الرسالة  ؛  ولتعلمي أنني لا أجيد صف الكلام ولا تنميق العبارات ولا تجميل الجمل لكنني سأكتب ما يخطر لي وما يرد في بالي وبدون تنسيق أو حتى مراجعة.
توفيت زوجتي "أم خالد" - رحمها الله - قبل حوالي الأربع سنوات ؛ ولم يمض على ولادة "ديم" سوى أسبوع أو أقل ؛ فترملت بحمد الله ووجدت حولي أربعة أشبال "خالد" ذي الخمسة أعوام ؛ و"دانة" ابنة الثالثة ؛ و"وليد" وسنه حينها سنة ونصف ؛ ولا يلزم الأمر توضيح كم حزنت لفراقها ؛ وكيف أظلم المنزل برحيلها – ولا اعتراض على قضاء الله - ؛ وبعد فترة بسيطة ؛ قررت الزواج لأجل أولادي ولم أجد – بظني – أفضل من ابنة خالي ؛ فتزوجتها وليتني لم أفعل ! ويكفي أن تتذكري مشية "وليد" لتري عرجه بسببها – وهنا رفعت "مريم" رأسها لتشاهد الصغير وهو يشاهد التلفاز بتركيز عجيب وقد مد ساقه اليمين أمامه - ؛ نعم ؛ كانت – حسبي الله ونعم الوكيل – ترى أولادي أبناء ضرتها ! وكم كان ثمن إهمالها غالياً ؛ أرأيت قدم "ديم" وشاهدت الندبة البنية الكبيرة فيها ؟ كان ذلك أيضاً بسببها ؛ حين تركت الصغيرة تلعب بجوار المكواة وهنا فقد انفجرت منها وعليها وطلقتها بلا رجعة.
بخصوص خطبتي لكم – وأحمّر هذه اللحظة خدي "مريم" – فكانت لما علمته عنكم وما سمعته من "أحمد" – صديقي القديم - بشأنكم ؛ كان ولا يزال يحكي لي قصة صبركم وكفاحكم ؛ وكيف كنتِ أماً وأختاً وصديقة للجميلة "آلاء" ؛ وأنا – لا أخفيكم – لا أستطيع العيش بقية عمري أعزباً ؛ وقد توهمت أن حاجتي للزواج لأجل أولادي فقط ! لكنني منذ سنتين أدركت أنني مخطئ ؛ ولن أجد أفضل منكم لتكونَ أماً لأولادي – أقولها بكل صدق معكم وبعظيم الافتخار إن قبلتم – وأعاهدكم أمام الله أن أكون لـ "آلاء" أباً حانياً ولن أفرقها عن إخوتها الأربعة.

أم "آلاء" : كاتب هذه الرسالة رجل أعمال لم ينلْ حظاً كبيراً من التعليم ؛ لكن الحياة درسته والتجربة صقلته والخبرة نورته ؛ حتى رأيت أن حياة كل منا تقوم على سبعة أيام (ملونة) ؛ وتختلف بتفاوتنا وتتباين بتنوعنا وتتعدد بأقدارنا ؛ وقد مررت – شخصياً – بستةٍ منها [ 1- يوم تخرجي من المدرسة الثانوية ؛ 2- يوم وفاة والدي أسكنه الله ووالدتي – التي لم أدركها – الجنة ؛ 3- يوم زواجي من أم "خالد" رحمها الله ؛ 4- يوم بداية عمل مصنعي الأول وهو نفس يوم ولادة "خالد"؛ 5- يوم وفاة زوجتي غفر الله لها ؛ 6- يوم طلاقي لـ "سلمى" – صدقي ذلك ! – ؛  7- ......... ] فراغ أنتظر تكرمكم بتعبئته !.

أم "آلاء" : أدناه وضعت إجابتين ؛ ولا أملك سوى قبول أي منهما ؛ لكني – وأيم الله سأكون سعيداً بل ومسرورا لو حظي طلبي بالقبول ؛ ولكم مني  كل الأماني بالتوفيق والسعادة.

المخلص : "صالح أبو خالد"

مع التحية / أنا أم "آلاء" :

o      موافقة.
o      موافقة.

على طلبكم ؛ مع أصدق أمنياتي لكم ولمن تحبون بالرضا والهناء والنجاح.

التوقيع : أم "آلاء".

أجل ؛ هو ما شاهدته ؛ خيارين متطابقين ؛ رأتهما "مريم" كما رأيتهما أنت ؛ فتناولت قلماً أحمراً من يد "رند" وكتبت قبل الخيار الثاني كلمة (غير) ؛ واستغرق الأمر منها بضع دقائق ؛ انتهت بوضع علامة صح أعلاه والتوقيع تحت كنيتها ؛ ثم بعثت الرسالة وقد طوتها بعناية مع "رند" بعد أن أفهمتها أن تسلمها لضيف والدها فخرجت الصغيرة والضيق يبدو على ملامحها لتركها رفقتها والمسلسل الكرتوني في منتصفه ... وبنهاية ذلك اليوم ؛ مضت سبعة أيام (ملونة).


تمت بحمد الله.

10 التعليقات:

إظهار التعليقات

إرسال تعليق