2010/10/08

" دموع باردة "



موقف ومر ؛ هكذا كنت اقنع نفسي ؛ لكنني - في حقيقة الأمر - كنت أخدعها ؛ فالموقف ما زال يعيش معي ؛ وبكامل تفاصيله المرة والمؤلمة و ... سجل ما شئت من كلمات الحزن والقهر والبكى والألم ...

قبل يومين ... تأكدت مما سبق ؛ إذ تجدد الموقف ؛ بكل شخوصه ورموزه ؛ فنفس الجاني ؛ وعين الضحية ؛ الأداة لم تتغير ؛ والمكان لم يتبدل ؛ وحتى الألم استنسخ من سابقه ... وربما - لست واثقاً - كان أمضى وأشد ...
فقط ؛ الزمن تجدد ؛ وازددت أنا شيباً ؛ وضعفت تحملاً ؛ نعم أقولها بكل صدق ؛ فقد بدا إنني كلما كبرت انكسرت ! وقد كنت أردد موهما نفسي بأن العاصفة التي لا تقتلعني ؛ تصلبني ...

حقيقة ؛ لا يسعني لوم أحد  ؛ فالقدر لا يُعاتب ؛ والقضاء لا يتأخر ؛ ونفسي المسكينة لا تحتمل ؛ وهو لن يتحول ؛ وقد إلتزم بمساره ؛ وقنع بمسلكه ؛ أعجبته صفاته ؛ وزهى بقوته ...

بكيت كثيراً ؛ أكثر من أن يوصف ؛ فكنت أهرب من البكاء للبكاء - أي وربي - ؛ ومنذ الأمس لم أغادر غرفتي أو سمها قفصي - لا فرق - بل حتى لم أتناول شيئاً ؛ ووجدت معدتي تضامنت مع قلبي فلم تطلب - حتى الساعة - زاداً ...

والليلة ... ومنذ الثامنة مساءً ؛ استلقيت على سريري ؛ واستغرقت في أفكاري ؛ رحلت وقد امتطيت جواد الخيال للبعيد ؛ البعيد جداً ؛ تذكرت أيام الصغر ؛ تذكرت قريتي الوادعة ؛ تذكرت جدتي الحانية ؛ إيه يا جدتي ... كم كنت حنونة ! طيبة ! وكريمة ! كيف لا وقد صورت لنا - في كل قصة يومية - الدنيا كحديقة غناء ؛ وأحفادك كفراشات يتنقلن بين زهرة لأخرى ؛ هكذا بكل بساطة !

كنت من بين الأحفاد أرمقك بعين صغيرة ؛ وعقل كبير ؛ صدقيني يا جدة ؛ كنت أقول - لنفسي - وقد اسندت خديَّ المتوردين على كفيَّ الصغيرتين : " أيعقل أن هذه الدنيا بتلك الزخرف والزينة ؟ ؛ لا .. لا  ؛ فحال بيتنا لا يقول ذلك ؛ ابدأ لا أذكر أنه فعل " ...

أبي - مثلاً - كان يعود كل ليلة بجسد مكدود ؛ وأمي - هي الأخرى - ما فتأت ُتعيشنا بهم ممدود ؛ بل وحتى جدتي - نفسها - كانت تئن وتتوجع من أمراض لا أحصيها !كذلك حالنا - كأسرة - ؛ لم تكن ميسورة وبالكاد كنا نعيش على الكفاف ! والخلاصة ؛ إن كل ما في المنزل وساكنيه يصرخ بعكس أماني جدتي وبخلاف أحلامنا نحن ...

وحده " مازن " - شقيقي الحبيب - يزعزع فكرتي تلك ويعيدني لخيالات جدتي ؛ ولا عجب ؛ فقد كان - بالنسبة لي - ككنز ٍ ثمين ٍ ؛ كان أخاً وصديقاً ؛ كان معلماً ومؤدباً ؛ كان حضناً وملاذاً ؛ كان وكان وكان ؛ لكنه في الأخير وبكل مفاجأة - غير سارة هذه المرة -... رحل !

كان قدره أن يرحل " صغيراً " وكان قدري أن أصدم مبكراً ؛ وبصعوبة بالغة اجتزت تلك الأزمة وخرجت بأقل الخسائر ؛ اكتئاب حاد صادقت بسببه عدداً من الأطباء ولازمت لأجله كمية من المهدئات ؛ كما عادت الأفكار - إياها - لتسيطر عليَّ وبكل عنفوان وقسوة ؛ لكنني في الأخير ؛ اجتزت الأزمة وعبرت المضيق...

بين الحين والآخر ؛ أعود لشيء من إرث " مازن " : بضعة أسطر في دفتر أخضر ٍ جميل ٍ؛ - ما زلت احتفظ به - ودرر آسرة حفظتها - منذ قرأتها - عن ظهر قلب ؛ يا الله ... كم من مرة - مثلاً - تأملت في قوله : " أشد الألم : أن يضحك "حبيبك" نتيجة ؛ لبكاء "عينك" فيحتار "عقلك"  ؛ بين محاسبة "قلبك" ... و كفكفة "دمعك" ... وفي كلتيهما ما زال ... يشتد "ألمك" .. " يا له من وصف بديع ؛ يبهرني صدوره عن " مازن" بالذات ؛ فقد عاش يشع أملاً - أو هكذا تظاهر - ؛ وكم بثَّ في قلوبنا - جميعاً - معاني البهجة والسرور !

أتذكر أنني في فترة ما ؛ قررت أن أتزوج ؛ إذ أحسست بأن الوقت قد حان لأفعل ! بكل بساطة كان ذلك السبب ؛ وبكل غباء فعلت ؛ وبكل - ثالثة - ظلم حدث للمسكينة اعترفت - أو هانذا أفعل الآن - ؛ كانت فتاة لا ينقصها شيء ؛  َكزهرة بديعة أو ندى منعش ؛ مع قليل من البهجة - أو لنقل كثير - ولكن ؛ قدرها خبأني لها ! حتى كدت أن أقتلها - من غير نية ومن دون آلة - !

مسكينة هي ؛ مصيرها ربطها بمن يناقضها روحاً ؛ وهي بربي مصيبة كبرى ؛ أن تساكن من فقد اللذة والأنس وربما الأمل بكل شهي وممتع ومستقبل ... وأتذكر أنني قرأت لها جملة كتبتها
- ذات مرة - بخطها الأنيق في ركن علوي لغلاف مجلة شبابية ونصها : " مضجر ؛ أن تسير خلف من يتحين الفرصة ؛ ليقف ! " قرأتها مرتين ؛ ولم أهتم ! صحيح ظننت الأمر يتعلق بي وبها ؛ لكنني في النهاية لم أهتم !

وقبل أن نكمل ثلاث سنوات على زواجنا - الرتيب - ؛ أنفصلنا ! بكل هدوء وبساطة و ... سعادة ! أجل ؛ أحسست بأنها كانت سعيدة - ولن ألومها - فيكفيها ما عانته حين ارتبطت بجسد عُدمت منه الروح ؛ ولكني شخصياً - وكعادتي - لم أكترث ؛ أو أنني تصنعت هذا وأنا أنظر لزواية جميلة في الموضوع - إن كان فيه جمال - أننا لم ُنرزق - بحمد الله - بطفل ؛ يتيه بين جمود والده ؛ وبقية من جذوة والدته !

بعد ذلك ؛ عدت لوحدتي - إن كنت قد فارقتها أساساً ؛ وأخذت أنقّب - بشكل شبه يومي - عما إن كان في حياتي - الماضية - ما يميزها ! ... لمَ كنتُ أفعل ؟ ما من جواب محدد ! أهو هروب من شيح دمعات ؛ أو إدمان لجلد الذات ؟ انغماس في حلم ؛ أم تجاهل لألم ؟ فعلاً ... لست أدري.

ولم أجد سوى ذكرى موجزة للذائذٍ خاصة ؛ ... قرية وجدة ؛ طفولة وشوكولاته ؛ أحلام وآمال ؛ و" مازن " ودفتره ؛ وما دمت عدت لسيرة الدفتر الأثير فسأدون - ولا تسألني من فضلك لمَ أفعل - بعضاً من أبلغ ما سطره توأمي الراحل فيه  ؛ كقوله : " لا يهم كم أنتظرت حبيبك ! ففي الانتظار شوق وأمل ولذة ؛ لكن المهم أن يحضر وقبل فوات الأوان ".

وقوله : " القدر لا يتأخر ؛ لكن المشكل أنك لا تعلم موعده " ! أتصدق ؟ كانت هذه الجملة هي آخر ما كتب ؛ وكأنما كان يحس بدنو أجله ! وهنا سأقف في الحديث عن " مازن " وتراثه فدمعي يسبق حرفي ...

يا ترى ...
ما سر هذه الدنيا , وكل متعها زائلة ونعيمها فان ٍ !
لمَ اقرأ الابتسامة في عيون الخلق ؟ والمرء - منهم - يولد باكياً ويرحل مبكياً !
لم يتشبث الناس - كلهم - بالحياة ؟ وقد ملئت مصائب وكوارث !
وأنت ...
كم من لحظة فرح تذكرها ؟
وكم من ساعات حزن عشتها ؟

أعلم أنه " لا مقارنة "
بل - الحقيقة - أعظم من ذلك ...
وإن فتشت من حولك ونظرت ؛ ستجد :

أمراض وأسقام ؛
أحزان وكآبة ؛
حسد وضغينة ؛
ظلم ومكيدة ؛
هموم وغموم ؛
آهات ودموع ؛
ملل وألم ؛
فراق ورحيل ؛
وما ذا بعد ؟
أليست تلك بكافية وقاضية !

ثم ...
ماذا بوسعنا أن نفعل وقد خلقنا من ضعف ونرد لضعف  !
وما حيلتنا وقد ... وهنا ارتعشت يد صاحبنا فوقع القلم على دفتره وتطاير الحبر ؛ وقد تناهى لمسمعه صوت رخيم يردد :
" الله أكبر " ... 

فأغلق عينيه وأصاخ السمع - دقائق طويلة - ؛ لآذان يرتفع وضمير يتضرع لقلب ٍ يخشع وكأنما يتوجع : " نعم ؛ الله أكبر ؛ الله أعظم وأجل وأقدر ؛  كأنني اسمع الآذان لأول مرة ! ولقد ... لقد وجدت - أخيراً - ما كنت أبحث عنه ؛ وكل هذه الدنيا موجزة بجملة واحدة ؛ فرحماك يا إلهي وعفوك " ...
وهنا فقط تحول ما سبق لبكاء خافت ولم يدر ِ - صاحبنا - إلا بدموعه تذرف بغزارة - وقد ظن أنها قد جفَّت - ؛ ندماً على ما فات - من حزن وألم - وفرحاً بما هو آت - من فرح وأمل -؛ وكم كانت غالية وثمينة ... تلك الـ دموع الـ باردة.




تمت بحمد الله.

39 التعليقات:

إظهار التعليقات

إرسال تعليق