2010/12/09

شتات هوية



قالت : " أنا بلا هوية !
ولدت نتيجة لقاء محرم !
وعوملت ممن حولي كمجرم !
عشت بدار خرساء
بلا أم وأب وأشقاء
أجربت أن تكون بلا هوية ؟ "

قلتُ بعد صمت :  " بل أنت كل الهوية !
فلك دين وخلق وأدب مكرم
وسترزقين غداً بزوج مغرم
تربيت في جنة خضراء
لكن ؛ شيطانك صوّرها صحراء
وهو نفسه من جردك عن الهوية ! "
قالت بكل سخرية :
" وشيطاني اللعين أتراه كصحابته
يعيش في داخلي من دون هويته ! "

قلتُ بما يشبه الضجر :
" مقصدي واضح ولا يعنيني ما فهمته
وكفي عن تجريد عقلك من هويته ! "

صمتت ؛ نظرت نحوي بذهول ؛ ثم أطرقتْ
أشحت بوجهي ؛ كتبت بضعة كلمات ؛ ثم قرأتُ :

" زهى بنت سلمان ؛ العمر 23 ؛ بكالوريوس رياضيات
تجيدين اللغة الإنجليزية ولديك حصيلة جيدة من القدرات
فما هذا الذي تقوله عنك كبيرة المرشدات ؟ " 
" لا ادري ... ربما أخبرتك أنني أصبحت من المجرمات ! "

عقدت حاجبي غضباً وقبل أن أعلق ؛
استطردت – هي - بصوت باكٍ :

" أرجوك يا أستاذ ... لا تصدق كل واش ٍ وشاكٍ
وسأقول لك ما لم يفهمه من حولي ؛ ولكن !
أتعدني بأن ترشدني للبياض ؟
فـوربي قد كرهت اللون الداكن !
ولم العجب وأنا قد
خرجت للدنيا بجسد مكبل
وتربيت ما بين قل ولا تفعل
ما يتصل بي - مهما حَسُنَ - مذمم
وكل من حولي مني متبرم
كغيري أحاول رسم مستقبلي فكم من منفر !
وفوق ذلك ببلاهة يسألون لم مزاجك مكدر ؟

عقبت ؛ بصوت حاولت أن أصبغه ببعض الوقار
" وكدرُ مزاجكِ ؛ يدفع بك لمحاولة الانتحار !
أكان ذلك ... يأس منك ؛ يعقبه فرار
أم تراك لم تجدي خيراً منه ... قرار ! "

هنا فقط ... بكت بل وانتحبت !
لم أتمالك نفسي ومسرعاً خرجت
تعجبتُ من فعلتي ثم أحسستُ بأنه خيرُ ما فعلت
فلأتركها تبكي فعلها حتى أخالها قد هدأت
مضت دقائق عشر ثم للمكتب عدت
لم أجدها ! وفي منتصف المكتب ورقة منها وضعت
وبخط أخضر جميل - وإن تعرج - لي كتبت :

" أستاذ سعود ؛ سامحني فلم استطع إكمال التحقيق !
سأعود للدار وغدا أراجعك ولعلي حينها من جنوني أفيق
فلا تعتب علي يا فاضل ولا من فعلي تضيق
وتذكر أنني عشت وحيدة حتى من رفيق
وليس لي سواك مرشد وصديق "

وفي موعدها جاءت يطوقها ما يشبه السرور
فتناسيت ما حل بالأمس كي لا أفسد ذلكم الشعور
لكنها ؛ بعد أن تبادلنا التحايا قالت بما يشبه الهمس :
" أعتذر لك أستاذي عما صار مني بالأمس "

فأشرت بيدي علامة النفي وكررت :
" لا عليك ؛ لا عليك ؛ أقدر موقفك لكن ... " ثم ترددت !
دعتني بلطف لأن أكمل ؛ فقلت :
" زهى ؛ لم بالأمس هربت ؟ "

صرخت في ذهول أو سمه إنكار
" هربتُ ! "
ثم أردفت بسؤال كأنما فيه احتقار !
" ما ذا قلتَ ؟ "
فلم أرد أن يعكر صفو الجو غبار
وأوضحت :
" زهى ؛ انصرافك لن يوصف بغير الفرار ؛
ولو أقسمت !
فدعينا مما مضى ولنتخذه سوية هذا القرار
واقرئي ما ذا كتبت "

وبانزعاج بيّن
تناولت من يدي ورقة بيضاء
أوجزتُ فيها ما جرا بيننا بالأمس
وما أراه من توصية أو إجراء
فأخذت تقرأ وكأنما تبلد الحس :

" زهى ... شابة تتقد ثقافة وذكاء ؛
لكنها تفرط في تمثيل حياة البؤس !
ومقتنعة – في داخلها - أنها تعيش في العراء !
تجلد ذاتها وُتحقر نفسها وقد أغفلت الحدس
متشككة ؛ متوجسة ؛ وترى كل من حولها حقراء ! "

ولم تكد تتم القراءة حتى ... انهارت
ودفنت رأسها بين يديها وأخذت تتمتم
بحروف خرجت من بين أدمعها فلا تكاد تفهم :

" ... حتى أنت يا أستاذ مثلهم ؛ وقد ظننتك تعلم
بأنني أعيش حياة موجعة وكأنني في نار تضرم
وتناولي للدواء مرتين – نسياناً - ؛ لا عمداً ولم أجزم
وقد توهموه كرهاً للدنيا ؛ وأنني لنفسي أعدم
وأقسم لك أني بربي مؤمنة ؛ فما لك كيف تحكم ؟ "

هززت رأسي موافقاً مبتسماً
وأخرجت سيجاراً ؛ وأظنها توهمته مشتعلاً
فنهرتني بصوت آمرٍ  وبدا لي وجهها منفعلاً
" الدخان محرم ؛ وممنوع ؛ ويضايقني فكن محترماً "

فحرصت أن أكون لفرصة ضعفها مغتنماً
لذا سحبت منها الورقة وقلبتها مسترسلاً :

" زهى ... تمهلي ولا تجعلي حكمك - كعادتك - مبتسراً
فما رأيتيه كان صدمة مدبرة ؛ وما قرأتيه كان امتحاناً مختصراً
وهدفي أن أخرجك من سجنك الوهمي فأكون بذلك منتصراً "

فزوت بين عينيها وبتركيز شديد بدأت تقرأ :

" ... هي فتاة موهوبة ؛ وذكية جداً
لماحة ؛ مثقفة ؛ واثقة ؛ ومتذمرة دوماً
تجيد قراءة الأنفس وتحليل الشخصيات
لكنها معهم ؛ تقدم نية السوء ؛ وتستعجل ما هو آت
تقيد نفسها بقيد مؤلم ؛ فتظل تردد أنها لا تملك هوية
مما أنعكس عليها ؛ فصارت ًكتائهٍ في شتات هوية
ولو تحررت من تلك الفكرة وكسرت ذلك القيدَ
لأصبحت فتاة رائعة ؛ وهي بلا شك قادرة .. بيدَ
أنه ... ما مفهوم زهى بنت سلمان للهوية ؟ "

فلما بلغت هذا السؤال ...
رفعت رأسها بهدوء وروية وقالت :

" الهوية : أصل وفصل ؛ سند وملاذ ؛
لا جسد وجوارح ؛ فمصيرها إلى جذاذ
الهوية : انتماء وولاء وإلا شابهت الشذاذ
... الهوية باختصار ؛ نبعٌ دائمٌ لا مجردَ رذاذ "

وصمتت ؛ وكأني بها تدعوني لأن أعلق
فلم أحر جواباً لدقائق ؛ وببنت شفة لم أنطق
وتضاربت الأفكار في مخيلتي ؛ وأخالني بدأت أعرق
فلم أملك قول شيء سوى نصيحة أخيرة ولعلي أصدق :

" زهى ؛ عرفتك منذ فترة بسيطة
بصفتي معالج نفساني يملك خبرة يسيرة
قابلتك بضع مرات وحسبت نفسي دللتك الخريطة
وكل ما مضى اعتدته في تجارب متشابهة وكثيرة ... "
ثم أضفت نقاطاً ؛ بكل اختصار
" ... هم قالوا بأنك حاولت الانتحار
فلم ألحظ دقتهم فيما نقلوه من أخبار
ولأتأكد كان لابد أن أجري لك اختبار
ومن ذلك أن ترفضي فعلي " المزور " بنفث " السيجار "
لأستبين مدى تفريقك بين قرار وقرار
ولنعتاد سوية الرضا بما ليس لنا فيه اختيار "
" ... و
هاأنذا أعلن فشلي وأنت عاقلة جسورة
ففتشي بنفسك عن هويتك وكوني عاقلة صبورة
وأتمنى لك حياة هانئة ونفسية مستقرة وأن تحيي مسرورة
وأخبريني بما يجد في حياتك ؛ ولست على ذلك مجبورة "

وسلمتها ورقة تخصها ؛ فأخذتها واقفة وهمت بقول شيء
ترددت كثيراً وقد عقدت بين أصابع كفيها ومضت دون قول شيء
وربما سمعتها تقول : " أخي سعود .. شكراً لكل شيء "

وبعد سنتين ؛ أو لعلها ثلاثة سنين
وقد استقلت من عمل الحكومي لأفر من الروتين
وردني ظرف يحوي رسالة كتبت بلون الـ لجين
وبرفقه هدية أنيقة عبارة عن كتابين

" أخي سعود ؛ بعد التحية والتقدير
أردت شكرك .. الشكر الكثير
على ما قدمته لأجلي من نصح وفير
وما زلزلته في داخلي من خطأ أثير

أتذكرُ
أنني عدت – من بعد لقاءك – لنفسي
حاولت أن أكتشفها بل وأطورها بنفسي
حدثتها ؛ صادقتها ؛ وشاركتها بكل أنس ِ
تناسيت شتات هويتي ؛ واستوعبت ما قدمته لي من درس ِ
وعلمت بأن هويتي في داخلي فلم لا أصنع واحدة لنفسي ؟

ولعلك تسعد حينما  َتعلم
بأنني تزوجت من الشاب " سالم "
وهو خلوق ؛ حنون ؛ وفي مجاله عالم
ومن نفس فئتي بلا هوية  ُتعلم

وقد رزقنا مؤخراً بـالطفل ( سعود )
والذي أنعش في قلبي كل فرح موءود
وأرى فيه حبلاً لكل جمال ممدود
فهل تراني تجاوزت أزمة البحث عن الغير موجود ؟
وأخَرَجْتُ يا ترى مما كنت أعانيه من ذهن مكدود ؟
وفي الختام .. اسلم لأختك ( أم سعود ) .. "

ولن تعلموا كم فرحت بما علمت !
ولم أتنبه إلا وأنا أتناول قلماً أزرقاً وبه كتبت :

" الأخت الغالية ( زهى أم سعود )
وصلتني هديتكم الجميلة وبرفقها المكتوب
سرني ما فيه من بشرى تعديتكم لعقبتكم الكؤود
وفرحت لزواجكم وإشراقة صغيركم المحبوب
وأتمنى عليكم نسيان ما مضى فهو لن يسود
وأن تكوني حصيفة ؛ فمثل هذه الآلام كذوب
نظنها رحلت ونستهتر بجذوة منها فلا تلبث أن تعود

وتذكري بأن هويتنا نصنعها بأيدينا
من علمٍ وخلقٍ وكل ما جاء به ديننا
وما سواها إرث لن يضيف لنا
كما أنه لا شك لن يلبث معنا

أتتذكرين يوم أخبرتك بأنك كل الهوية ؟ "
تمت بحمد الله.

36 التعليقات:

إظهار التعليقات

إرسال تعليق