2011/03/05

قلبي لأبي


هذه الأيام ...
مرت ثلاثون سنة على رحيلك ؛
فجأة ؛ ولوحدك ؛ وفي ريعان شبابك ... رحلت !
ذهبت بروحك وأخذت معك كل ما هو لك ؛
فبقينا منذ ذاك ... بانتظارك !
وحدنا فعل ؛ وما من أنيس أو جليس عدا ؛
ثلة قرابة وبضعة صحب لك أوفياء !
واليوم .. لست مصدق أن ذكرى رحيلك ؛
مرت عليها ثلاثون سنة أو تزيد !
وأنني عشتها – كلها – من دونك وبلا حنانك.


ما زلت أتذكر ذلك اليوم جيداً
أفعل ذلك – مرغماً - ومع أغلب تفاصيله !
وكيف لطفل في السادسة من عمره أن ينساه !
كان الوقت : عصراً ؛ والمتصل : رجل غريب
وقد سألني أن أنده له أخ من أخوتي الكبار
وأخي الأوسط – المسكين - هو المتواجد ...
والذي لم يكد يسمع بعض عبارات من موظف المشفى ؛
حتى انهمرت دمعاته بغزارة أظن عينيه قد جفت بعده
وهرب – نعم هرب – لغرفته في الدور العلوي
فأدركنا جميعاً بأنك - أي حبيبي - : قد رحلت !

تحول المشهد بعدها ؛ لمشهد سواد وبكاء
و ذاكرتي تخبرني بأن المنزل غص بالمعزين
وأن والدتي وشقيقتي أضعتهن في ذلكم الزحام ؛
ولم أعثر عليهن من بين الباكيات ذوات العباءة السوداء
وأخي الأصغر يلعب في الفناء ويسألني كل فترة وفترة :
" سعود ؛ أين ذهب أبي ؟ " فأجيبه بذهن مغيب :
" لقد سافر كعادته ؛ لكنه هذه المرة لن يعود "
فيصرخ في وجهي - في كل مرة - :
" لا تكذب ؛ فأبي في كل مرة يعود " ؛
لكنك يا أبت لم تعد !

رحلت يا والدي ... فرحل الاطمئنان
وغابت القدوة والمثال ؛ والعز والجاه والمال
إذ أنها من دونك غدت بلا قيمة ولا جمال
وصرنا – كأسرة صغيرة - كتائه في وسط صحراء
من غير زاد وماء ؛ لا يعرف اتجاه ولا يتوقع مآل
لكن الأمل - في قلوبنا - كان ولا يزال
مهلاً يا أبي ولا تقلق ؛ فنحن في خير حال
والفضل بعد الله ؛ لوالدتي – تلك الأرملة الشابة –
التي تولت - بعد أن فاقت من صدمة سفرك – الدفة
وكابدت واصطبرت لتصل بنا لبر الأمان.

أي فخري :
دعني أحدثك قليلاً عن والدتي ...
-        وأجزم أنك اشتقت لها كثيراً وأظنها كذلك هي ما فتأت تفعل -
تلك المرأة الجميلة ؛ المؤمنة الحكيمة ؛ والصابرة الفطينة
نفضت عن نفسها غبار الحزن وخلعت أسمال الخوف والقهر
لملمت ألمها ودمدمت جرحها وآمنت بقضاء ربها فلم يصفدها جزعها
وكأنما – وهذا ما كنت أراها فيها – قد تقمصت شخصيتك الرهيبة
فصارت لنا كأولاد ثمانية ؛ أباً وقد خلقت - هي – أماً
وكانت حضناً ومربياً ؛ مؤدباً ومعلماً ؛ بل - والله - ذلك وأكثر
وقد أدركت لم يا أبت اخترتها وحدها لتمنحها قلبك وأكبر.

رحلت يا أبت ؛ وتبعك خالي ثم جدي فعمي
وجمعٌ – لست أحصيهم - من أقاربي ؛
وكأن المنايا تزورنا على عجل
فحمداً لله على قضائه لكن العين تدمع والقلب وجل
... كلكم رحل مسرعاً ؛ حتى نتساءل : مَن أحبتنا مِن بقي ؟
ثم مرت الأيام ؛ فتناقص الحزن لحلول النسيان
أو لنقل تقهقر كرهاً وقسراً كمثل الشتاء عند هجوم الربيع
ولم يبقَ سوى الذكرى والألم ؛ والدعاء والأمل
بل الذكرى بالذات ما فارقتني منذ أزل
لا عمداً مني ؛ وهل أملك ألا أفعل ؟

إيه يا أبي :
لتعلم بأننا قد كبرنا ؛ تعلمنا وعملنا ؛ تزوجنا وأنجبنا
وأننا ما زلنا ولن نزال نسمع ثناء الناس عليك !
وفخرهم بمعرفتك ودعاءهم لك ولذريتك
فأخبرني – يا قرة عيني – بربك :
كيف سحرت – برجولتك - لبَّ كل من عرفك ؟
وهل الأمرُ مختزلٌ في كرم ٍوجودٍ وإيمان ٍوأدب ؟
والسرُ كامنٌ في شهامةٍ ونخوةٍ وحكمةٍ وكبرياء ؟
وماذا عن شموخك وسعة بالك و و و ...
يا أبتِ : لقد أتعبتنا - والله - من بعدك !

نعم يا قلبي ؛ تعبنا من بَعْدِك ؛ وضِقنا لبُعْدِك
حلمنا برسمك ؛ وأهمتنا وصيتك
ملكت أذهاننا ؛ واجتحت قلوبنا
تفكيراً بفعلك وتفكراً بسيرتك
وبين هذا وذاك ؛ ما السبيل لبرك وبر شمعة دارنا ... زوجك ؟
صحيح أنه كان التعب حلواً ؛ وحملّنا هماً سائغاً
إنما ... لن يغير ذلك في كونهما في نهاية الأمر تعب وهم
خاصة (سعود) ذو الصحة المعتلة والجسد الهزيل
والعرب تقول : " كل فتاة بأبيها معجبة " !
ولأني ُخصصت بمثل حظ الأنثيين ؛ فكان تعبي لذلك مرتين

واليوم ... مضت ثلاثون سنة على رحيلك
لا أبالغ أن قلت أنني عددتها يوماً وليلة
وكأني بالمشتاق للقائك ؛ وكل ما حولي يذكرني بك !
من قريب ؛ وصديقك ؛ ومنزل ؛ واسم أفخر بارتباطه بك
حبيبي ؛ أتسمح لي – ختاماً - أن أفشي لك سرين أثنين !
أما الأول : فهو أنني منذ صغري أعتدت أن أذكر اسمي الثلاثي ؛
لأسمع مديح الناس لك وأسعد بدعائهم لي – هذه المرة – ولك
والثاني : أعلم بأنني لم أطل عليك ؛ لكوني متقين بأنه شيء يسعدك ؛
فقد كانت ثرثرتي رفيقة لصباحك ؛ وبعد ذلك كله  ًأسأل لم قلبي لأبي !
فرحمك الله يا والدي ... وجمعني ووالدتي وإخوتي – في فردوسه - بك.


تمت بحمد الله.

34 التعليقات:

إظهار التعليقات

إرسال تعليق